ZANSTITAJWEED.COM

( آية 1-26 )-( آية 27-52 )-( آية 53-75 )-( آية 76-109 )

10- تفسير سورة يونس عدد آياتها 109 ( آية 53-75 )
مكية

{ 53 - 56 ْ} { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ * أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ْ}

يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ْ} أي: يستخبرك المكذبون على وجه التعنت والعناد، لا على وجه التبين والرشاد 

{ أَحَقٌّ هُوَ ْ} أى: أصحيح حشر العباد، وبعثهم بعد موتهم ليوم المعاد، وجزاء العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر؟

{ قُلْ ْ} لهم مقسمًا على صحته، مستدلا عليه بالدليل الواضح والبرهان: { إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ْ} لا مرية فيه ولا شبهة تعتريه.

{ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ْ} لله أن يبعثكم، فكما ابتدأ خلقكم ولم تكونوا شيئًا، كذلك يعيدكم مرة أخرى ليجازيكم بأعمالكم.

{ و ْ} إذا كانت القيامة فـ { لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ْ} بالكفر والمعاصي جميع { مَا فِي الْأَرْضِ ْ} من ذهب وفضة وغيرهما، لتفتدي به من عذاب الله { لَافْتَدَتْ بِهِ ْ} ولما نفعها ذلك، وإنما النفع والضر والثواب والعقاب، على الأعمال الصالحة والسيئة.

{ وَأَسَرُّوا ْ} [أي] الذين ظلموا { النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ْ} ندموا على ما قدموا، ولات حين مناص، { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ْ} أي: العدل التام الذي لا ظلم ولا جور فيه بوجه من الوجوه.

{ أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ْ} يحكم فيهم بحكمه الديني والقدري، وسيحكم فيهم بحكمه الجزائي. ولهذا قال: { أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ْ} فلذلك لا يستعدون للقاء الله، بل ربما لم يؤمنوا به، وقد تواترت عليه الأدلة القطعية والبراهين النقلية والعقلية.

{ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ْ} أي: هو المتصرف بالإحياء والإماتة، وسائر أنواع التدبير  ، لا شريك له في ذلك.

{ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ْ} يوم القيامة، فيجازيكم بأعمالكم خيرها وشرها.

{ 57 - 58 ْ} { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ْ}

يقول تعالى - مرغبًا للخلق في الإقبال على هذا الكتاب الكريم، بذكر أوصافه الحسنة الضرورية للعباد فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ْ} أي: تعظكم، وتنذركم عن الأعمال الموجبة لسخط الله، المقتضية لعقابه وتحذركم عنها ببيان آثارها ومفاسدها.

{ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ ْ} وهو هذا القرآن، شفاء لما في الصدور من أمراض الشهوات الصادة عن الانقياد للشرع وأمراض الشبهات، القادحة في العلم اليقيني، فإن ما فيه من المواعظ والترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، مما يوجب للعبد الرغبة والرهبة.

وإذا وجدت فيه الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، ونمتا على تكرر ما يرد إليها من معاني القرآن، أوجب ذلك تقديم مراد الله على مراد النفس، وصار ما يرضي الله أحب إلى العبد من شهوة نفسه.

وكذلك ما فيه من البراهين والأدلة التي صرفها الله غاية التصريف، وبينها أحسن بيان، مما يزيل الشبه القادحة في الحق، ويصل به القلب إلى أعلى درجات اليقين.

وإذا صح القلب من مرضه، ورفل بأثواب العافية، تبعته الجوارح كلها، فإنها تصلح بصلاحه، وتفسد بفساده. { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ْ} فالهدى هو العلم بالحق والعمل به.

والرحمة هي ما يحصل من الخير والإحسان، والثواب العاجل والآجل، لمن اهتدى به، فالهدى أجل الوسائل، والرحمة أكمل المقاصد والرغائب، ولكن لا يهتدي به، ولا يكون رحمة إلا في حق المؤمنين.

وإذا حصل الهدى، وحلت الرحمة الناشئة عنه، حصلت السعادة والفلاح، والربح والنجاح، والفرح والسرور.

ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ ْ} الذي هو القرآن، الذي هو أعظم نعمة ومنة، وفضل تفضل الله به على عباده { وَبِرَحْمَتِهِ ْ} الدين والإيمان، وعبادة الله ومحبته ومعرفته. { فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ْ} من متاع الدنيا ولذاتها.

فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين، لا نسبة بينها، وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحل زائل عن قريب.

وإنما أمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، لأن ذلك مما يوجب انبساط النفس ونشاطها، وشكرها لله تعالى، وقوتها، وشدة الرغبة في العلم والإيمان الداعي للازدياد منهما، وهذا فرح محمود، بخلاف الفرح بشهوات الدنيا ولذاتها، أو الفرح بالباطل، فإن هذا مذموم كما قال [تعالى عن] قوم قارون له: { لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ْ} .

وكما قال تعالى في الذين فرحوا بما عندهم من الباطل المناقض لما جاءت به الرسل: { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ْ}


{ 59 - 60 ْ} { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ ْ}

يقول تعالى - منكرًا على المشركين، الذين ابتدعوا تحريم ما أحل الله وتحليل ما حرمه  -: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ْ} يعني أنواع الحيوانات المحللة، التي جعلها الله رزقا لهم ورحمة في حقهم. { فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا ْ} قل لهم - موبخا على هذا القول الفاسد-: { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ْ} ومن المعلوم أن الله لم يأذن لهم، فعلم أنهم مفترون.

{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ْ} أن يفعل الله بهم من النكال، ويحل بهم من العقاب، قال تعالى: { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ ْ} .

{ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ ْ} كثير، وذو إحسان جزيل، وَلَكِنَّ أكثر الناس لا يشكرون، إما أن لا يقوموا بشكرها، وإما أن يستعينوا بها على معاصيه، وإما أن يحرموا منها، ويردوا ما منَّ الله به على عباده، وقليل منهم الشاكر الذي يعترف بالنعمة، ويثني بها على الله، ويستعين بها على طاعته.

ويستدل بهذه الآية على أن الأصل في جميع الأطعمة الحل، إلا ما ورد الشرع بتحريمه، لأن الله أنكر على من حرم الرزق الذي أنزله لعباده.


{ 61 ْ} { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ}

يخبر تعالى، عن عموم مشاهدته، واطلاعه على جميع أحوال العباد في حركاتهم، وسكناتهم، وفي ضمن هذا، الدعوة لمراقبته على الدوام فقال: { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ ْ} أي: حال من أحوالك الدينية والدنيوية. { وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ ْ} أي: وما تتلو من القرآن الذي أوحاه الله إليك.

{ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ ْ} صغير أو كبير { إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ْ} أي: وقت شروعكم فيه، واستمراركم على العمل به.

فراقبوا الله في أعمالكم، وأدوها على وجه النصيحة، والاجتهاد فيها، وإياكم، وما يكره الله تعالى، فإنه مطلع عليكم، عالم بظواهركم وبواطنكم.

{ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ ْ} أي: ما يغيب  عن علمه، وسمعه، وبصره ومشاهدته { مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ْ} أي: قد أحاط به علمه، وجرى به قلمه.

وهاتان المرتبتان من مراتب القضاء والقدر، كثيرًا ما يقرن الله بينهما، وهما: العلم المحيط بجميع الأشياء، وكتابته المحيطة بجميع الحوادث، كقوله تعالى: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ْ}

{ 62 - 64 ْ} { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ}

يخبر تعالى عن أوليائه وأحبائه، ويذكر أعمالهم وأوصافهم، وثوابهم فقال: { أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ْ} فيما يستقبلونه مما أمامهم من المخاوف والأهوال.

{ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ْ} على ما أسلفوا، لأنهم لم يسلفوا إلا صالح الأعمال، وإذا كانوا لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، ثبت لهم الأمن والسعادة، والخير الكثير الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.

ثم ذكر وصفهم فقال: { الَّذِينَ آمَنُوا ْ} بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وصدقوا إيمانهم، باستعمال التقوى، بامتثال الأوامر، واجتناب النواهي.

فكل من كان مؤمنًا تقيًا كان لله [تعالى] وليًا، و { لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ْ}

أما البشارة في الدنيا، فهي: الثناء الحسن، والمودة في قلوب المؤمنين، والرؤيا الصالحة، وما يراه العبد من لطف الله به وتيسيره لأحسن الأعمال والأخلاق، وصرفه عن مساوئ الأخلاق.

وأما في الآخرة، فأولها البشارة عند قبض أرواحهم، كما قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ْ}

وفي القبر ما يبشر به من رضا الله تعالى والنعيم المقيم.

وفي الآخرة تمام البشرى بدخول جنات النعيم، والنجاة من العذاب الأليم.

{ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ْ} بل ما وعد الله فهو حق، لا يمكن تغييره ولا تبديله، لأنه الصادق في قيله، الذي لا يقدر أحد أن يخالفه فيما قدره وقضاه.

{ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ْ} لأنه اشتمل على النجاة من كل محذور، والظفر بكل مطلوب محبوب، وحصر الفوز فيه، لأنه لا فوز لغير أهل الإيمان والتقوى.

والحاصل أن البشرى شاملة لكل خير وثواب، رتبه الله في الدنيا والآخرة، على الإيمان والتقوى، ولهذا أطلق ذلك، فلم يقيده.


{ 65 ْ} { وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ْ}

أي: ولا يحزنك قول المكذبين فيك من الأقوال التي يتوصلون بها إلى القدح فيك، وفي دينك فإن أقوالهم لا تعزهم، ولا تضرك شيئًا. { إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ْ} يؤتيها من يشاء، ويمنعها ممن يشاء.

قال تعالى: { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ْ} أي: فليطلبها بطاعته، بدليل قوله بعده: { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ْ}

ومن المعلوم، أنك على طاعة الله، وأن العزة لك ولأتباعك من الله { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ْ}

وقوله: { هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ْ} أي: سمعه قد أحاط بجميع الأصوات، فلا يخفى عليه شيء منها.

وعلمه قد أحاط بجميع الظواهر والبواطن، فلا يعزب عنه مثقال ذرة، في السماوات والأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر.

وهو تعالى يسمع قولك، وقول أعدائك فيك، ويعلم ذلك تفصيلا، فاكتف بعلم الله وكفايته، فمن يتق الله، فهو حسبه.


{ 66 - 67 ْ} { أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَْ}

يخبر تعالى: أن له ما في السماوات والأرض، خلقًا وملكًا وعبيدًا، يتصرف فيهم بما شاء  من أحكامه، فالجميع مماليك لله، مسخرون، مدبرون، لا يستحقون شيئًا من العبادة، وليسوا شركاء لله بوجه الوجوه، ولهذا قال: { وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ْ} الذي لا يغني من الحق شيئًا { وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ْ} في ذلك، خرص كذب وإفك وبهتان.

فإن كانوا صادقين في أنها شركاء لله، فليظهروا من أوصافها ما تستحق به مثقال ذرة من العبادة، فلن يستطيعوا، فهل منهم أحد يخلق شيئًا أو يرزق، أو يملك شيئًا من المخلوقات، أو يدبر الليل والنهار، الذي جعله الله قياما للناس؟.

و { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ْ} في النوم والراحة بسبب الظلمة، التي تغشى وجه الأرض، فلو استمر الضياء، لما قروا، ولما سكنوا.

{ و ْ} جعل الله { النَّهَارَ مُبْصِرًا ْ} أي: مضيئًا، يبصر به الخلق، فيتصرفون في معايشهم، ومصالح دينهم ودنياهم.

{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ْ} عن الله، سمع فهم، وقبول، واسترشاد، لا سمع تعنت وعناد، فإن في ذلك لآيات، لقوم يسمعون، يستدلون بها على أنه وحده المعبود وأنه الإله الحق، وأن إلهية ما سواه باطلة، وأنه الرءوف الرحيم العليم الحكيم.


{ 68 - 70 ْ} { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ْ}

يقول تعالى مخبرًا عن بهت المشركين لرب العالمين { قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ْ} فنزه نفسه عن ذلك بقوله: { سُبْحَانَهُ ْ} أي: تنزه عما يقول الظالمون في نسبة النقائص إليه علوًا كبيرًا، ثم برهن على ذلك، بعدة براهين:

أحدها: قوله: { هُوَ الْغَنِيُّ ْ} أي: الغنى منحصر فيه، وأنواع الغنى مستغرقة فيه، فهو الغني الذي له الغنى التام بكل وجه واعتبار من جميع الوجوه، فإذا كان غنيًا من كل وجه، فلأي شيء يتخذ الولد؟

ألحاجة منه إلى الولد، فهذا مناف لغناه فلا يتخذ أحد ولدًا إلا لنقص في غناه.

البرهان الثاني، قوله: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ْ} وهذه كلمة جامعة عامة لا يخرج عنها موجود من أهل السماوات والأرض، الجميع مخلوقون عبيد مماليك.

ومن المعلوم أن هذا الوصف العام ينافي أن يكون له منهم ولد، فإن الولد من جنس والده، لا يكون مخلوقًا ولا مملوكًا. فملكيته لما في السماوات والأرض عمومًا، تنافي الولادة.

البرهان الثالث، قوله: { إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا ْ} أي: هل عندكم من حجة وبرهان يدل على أن لله ولدًا، فلو كان لهم دليل لأبدوه، فلما تحداهم وعجزهم عن إقامة الدليل، علم بطلان ما قالوه. وأن ذلك قول بلا علم، ولهذا قال: { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ْ} فإن هذا من أعظم المحرمات.

{ قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ ْ} أي: لا ينالون مطلوبهم، ولا يحصل لهم مقصودهم، وإنما يتمتعون في كفرهم وكذبهم، في الدنيا، قليلاً، ثم ينتقلون إلى الله، ويرجعون إليه، فيذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون. { وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ْ}

{ 71 - 73 ْ} { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ * فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ْ}

يقول تعالى لنبيه: واتل على قومك { نَبَأَ نُوحٍ ْ} في دعوته لقومه، حين دعاهم إلى الله مدة طويلة، فمكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، فلم يزدهم دعاؤه إياهم إلا طغيانًا، فتمللوا منه وسئموا، وهو عليه الصلاة والسلام غير متكاسل، ولا متوان في دعوتهم، فقال لهم: { يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ ْ} أي: إن كان مقامي عندكم، وتذكيري إياكم ما ينفعكم  { بِآيَاتِ اللَّهِ ْ} الأدلة الواضحة البينة، قد شق عليكم وعظم لديكم، وأردتم أن تنالوني بسوء أو تردوا الحق. { فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ْ} أي: اعتمدت على الله، في دفع كل شر يراد بي، وبما أدعو إليه، فهذا جندي، وعدتي. وأنتم، فأتوا بما قدرتم عليه، من أنواع العَدَدَ والعُددَ.

{ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ ْ} كلكم، بحيث لا يتخلف منكم أحد، ولا تدخروا  من مجهودكم شيئًا.

{ و ْ} أحضروا { َشُرَكَاءَكُمْ ْ} الذي كنتم تعبدونهم وتوالونهم من دون الله رب العالمين.

{ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ْ} أي: مشتبهًا خفيًا، بل ليكن ذلك ظاهرًا علانية.

{ ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ْ} أي: اقضوا علي بالعقوبة والسوء، الذي في إمكانكم، { وَلَا تُنْظِرُونِ ْ} أي: لا تمهلوني ساعة من نهار. فهذا برهان قاطع، وآية عظيمة على صحة رسالته، وصدق ما جاء به، حيث كان وحده لا عشيرة تحميه، ولا جنود تؤويه.

وقد بادأ  قومه بتسفيه آرائهم، وفساد دينهم، وعيب آلهتهم. وقد حملوا من بغضه، وعداوته ما هو أعظم من الجبال الرواسي، وهم أهل القدرة والسطوة، وهو يقول لهم: اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ومن استطعتم، وأبدوا كل ما تقدرون عليه من الكيد، فأوقعوا بي إن قدرتم على ذلك، فلم يقدروا على شيء من ذلك.

فعلم أنه الصادق حقًا، وهم الكاذبون فيما يدعون، ولهذا قال: { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ْ} عن ما دعوتكم إليه، فلا موجب لتوليكم، لأنه تبين أنكم لا تولون عن باطل إلى حق، وإنما تولون عن حق قامت الأدلة على صحته، إلى باطل قامت الأدلة على فساده.

ومع هذا { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ْ} على دعوتي، وعلى إجابتكم، فتقولوا: هذا جاءنا ليأخذ أموالنا، فتمتنعون لأجل ذلك.

{ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ ْ} أي: لا أريد الثواب والجزاء إلا منه، { و ْ} أيضا فإني ما أمرتكم بأمر وأخالفكم إلى ضده، بل { أمرت أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ْ} فأنا أول داخل، وأول فاعل لما أمرتكم به.

{ فَكَذَّبُوهُ ْ} بعد ما دعاهم ليلاً ونهارًا، سرًا وجهارًا، فلم يزدهم دعاؤه إلا فرارًا، { فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ْ} الذي أمرناه أن يصنعه بأعيننا، وقلنا له إذا فار التنور: فـ { احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ْ} ففعل ذلك.

فأمر الله السماء أن تمطر بماء منهمر وفجر الأرض عيونًا، فالتقى الماء على أمر قد قدر: { وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ْ} تجري بأعيننا، { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ ْ} في الأرض بعد إهلاك المكذبين.

ثم بارك الله في ذريته، وجعل ذريته، هم الباقين، ونشرهم في أقطار الأرض، { وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ْ} بعد ذلك البيان، وإقامة البرهان، { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ْ} وهو: الهلاك المخزي، واللعنة المتتابعة عليهم في كل قرن يأتي بعدهم، لا تسمع فيهم إلا لوما، ولا ترى إلا قدحًا وذمًا.

فليحذر هؤلاء المكذبون، أن يحل بهم ما حل بأولئك الأقوام المكذبين من الهلاك، والخزي، والنكال.


ِ{ 74 ْ} { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ْ}

أي: { ثُمَّ بَعَثْنَا ْ} من بعد نوح عليه السلام { رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ ْ} المكذبين، يدعونهم إلى الهدى، ويحذرونهم من أسباب الردى.
{ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ْ}
أي: كل نبي أيد دعوته، بالآيات الدالة على صحة ما جاء به.

{ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ْ} يعني: أن الله تعالى عاقبهم حيث جاءهم الرسول، فبادروا بتكذيبه، طبع الله على قلوبهم، وحال بينهم وبين الإيمان بعد أن كانوا متمكنين منه، كما قال تعالى: { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ْ}

ولهذا قال هنا: { كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ْ} أي: نختم عليها، فلا يدخلها خير، وما ظلمهم [الله]، ولكنهم ظلموا أنفسهم بردهم الحق لما جاءهم، وتكذيبهم الأول.


{ 75 ْ} { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ ْ} إلى آخر القصة

أي: { ثُمَّ بَعَثْنَا ْ} من بعد هؤلاء الرسل، الذين أرسلهم الله إلى القوم المكذبين المهلكين.

{ مُوسَى ْ} بن عمران، كليم الرحمن، أحد أولي العزم من المرسلين، وأحد الكبار المقتدى بهم، المنزل عليهم الشرائع المعظمة الواسعة.

{ و ْ} جعلنا معه أخاه { هَارُونَ ْ} وزيرًا بعثناهما { إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ْ} أي: كبار دولته ورؤسائهم، لأن عامتهم، تبع للرؤساء.

{ بِآيَاتِنَا ْ} الدالة على صدق ما جاءا به من توحيد الله، والنهي عن عبادة ما سوى الله تعالى، { فَاسْتَكْبَرُوا ْ} عنها ظلمًا وعلوًا، بعد ما استيقنوها.

{ وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ْ} أي: وصفهم الإجرام والتكذيب.

( آية 1-26 )-( آية 27-52 )-( آية 53-75 )-( آية 76-109 )

الصفحة الرئيسية